نماذج من اغتنام السلف الصالح للوقت
لقد كان السلف الصالح - رضي الله عنهم -يحرصون على أوقاتهم، ولا يضيّعون منها شيئاً.
أ- الخليل بن أحمد الفراهيدي:
وهو أحد أذكياء العالم - على الإطلاق - في زمانه. هذا الرجل ألف كتاب "العين"؛ وهو معجم وقاموس في اللغة العربية، ووضع علم العَروض؛ وعلم العروض هو موازين للشعر العربي، فيه قواعد تضبط ميزان الشعر العربي.
يقول الإمام الخليل بن أحمد الفراهيدي: "أثقل الساعات علي ساعة آكل فيها". لأنه سيضيع وقته في الأكل، ونحن اليوم نجد الساعات التي نأكل فيها هي ألذّ وأمتع الساعات علينا؛ لأننا لا نهتم بالعلم والمعرفة كما نهتم بطعمنا. فكثير من الناس الآن الوجبة الواحدة عندهم تأخذ من اهتمامهم حيّزاً كبيراً من الوقت، بينما الفراهيدي كان يجد أن وقت الطعام وقت ثقيل على نفسه.
بعض العلماء كان يقول: "لا أجد الوقت لآكل، كانت أختي تلقّمني الطعام وأنا أشتغل بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم".
ب- الإمام أبو يوسف (قاضي القضاة):
الإمام أبو يوسف يعقوب، قاضي القضاة، وأحد كبار تلامذة الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه. هذا الإمام الجليل كان شديد الملازمة والمتابعة لشيخه أبي حنيفة رحمه الله تعالى، ولقد لازَمه أكثر من سبعة عشر عاماً، ما فاتته صلاة الفجر معه أبداً، ولا فارَقه، لا في يوم عيد الفطر، ولا في يوم عيد الأضحى إلا من مرض أو سفر، لم يترك شيئاً أبداً. وروى محمد بن قدامى أنه سمع أبا يوسف يقول: "مات ابن لي، فلم أحضر جهازه، ولا دفنه، ولا تكفينه، وتركت الأمر إلى جيراني وأقربائي؛ مخافة أن يفوتني من أبي حنيفة شيء لا تذهب حسرته عني". لقد خشي وخاف أن تضيع عليه مسألة من مائل العلم التي يعلّمها أبو حنيفة رضي الله عنه، وقد عُرِف عن الإمام أبي حنيفة قوة الحجة والدليل، حتى أنه ورد في ترجمته أنه لو أراد أن يثبت لك أن هذه السارية من ذهب لَفَعل.
رضي الله عن السلف الصالح وأرضاهم، وبارك لنا في حياة علمائنا.
جـ- الثلاثة الذين حرصوا على العلم:
يُروى عن ثلاثة من أهل العلم أنهم كانوا أكثر الناس حرصاً على أوقاتهم، الخطيب البغدادي يروي هذا الكلام في كتابه "تقييد العلم" عن أبي العباس المبرِّد يقول: "ما رأيت أحرص على العلم من ثلاثة؛ الجاحظ[1]، والفتح بن خاقان[2]، وإسماعيل بن إسحق القاضي[3]. أما الجاحظ فإنه كان إذا وقع بيده كتاب يقرؤه من أوله إلى آخره[4]. وأما الفتح بن خاقان فإنه كان يحمل الكتاب في كمه، فإذا قام من بين يدي المتوكل للوضوء، أو لقضاء حاجة فإنه يخرج الكتاب من كمه فيقرأ فيه إلى أن يبلغ الموضَّأ، فيعيد وضعه، فلما يعود يخرج الكتاب من كمه فيقرأ ويستفيد من هذه اللحظات والدقائق القصيرة[5]. وأما إسماعيل بن إسحق القاضي فإنه ما دخل عليه أحد قط إلى وجد في يده كتاباً ينظر فيه، يحقّق في المسائل والفتاوى، ويحررها، ويكتبها، ويقيدها".
جاء في كتاب "معجم الأدباء" لياقوت الحموي في ترجمة الإمام الفلكي الرياضي، والمؤرخ الأديب الذي جمع أشتات العلوم، (محمد بن أحمد البيروني): دخل الإمام الولوالجي - وهو أحد الفقهاء في زمانه - على البيروني، وقد كان يجود بنفسه، وحشرجت روحه في صدره، وكان قد بلغ من العمر ثمانية وسبعين عاماً، فلما رآه البيروني (أي الولوالجي) دخل عليه قال له: "قلت لي يوماً حساب الجدّات الفاسدة[6]، ولم آخذ منك تتمة المسألة". فقال له الفقيه الولوالجي: "الآن؟!". فقال: "نعم. والله لأن أودع الدنيا وأنا عالم بهذه المسألة خير لي من أن أخلّيها وأنا جاهل بها". مسألة واحدة لم يفرّط بها! تعلّمها وهو ينازع، وروحه حشرجت في صدره، قال الإمام الولوالجي: "فأعدت عليه المسألة، وذاكرتها معه، وحفظها، فلما خرجت من عنده وأنا في الطرق إذا بي أسمع الصراخ، وقد فاضت روحه إلى بارئها". لاحظوا كيف استثمر وقته حتى في أثاء نزع الروح لم يفرّط في هذا الوقت، بل استثمره في تعلّم المسائل والعلوم. إذاً السلف الصالح - رحمهم الله - كانوا يستثمرون كل الأوقات فيما ينفعهم، ويقربهم إلى الله سبحانه وتعالى.
هـ- الإمام جمال الدين القاسمي:
عاش الإمام جمال الدين القاسمي خمسين سنة، وألف في هذه السنوات ما يزيد على خمسين مؤلَّفاً، فلو قلنا إنه بدأ التأليف من أول يوم في عمره، يكون قد كتب في كل سنة كتاباً، والمعروف أن الإنسان لا يبدأ الكتابة من أول سنة في عمره. فالإمام جمال الدين القاسمي - رحمه الله تعالى - كانت حياته زاخرة وعامرة بالعلم، والتعليم، والكتابة، والتأليف، وشُهر عنه أنه كان يقول: "ليت الوقت يُباع فأشتريه".
و- الإمام النووي:
وقد عاش خمسة وأربعين عاماً، وترك مئات المؤلفات، والمجلدات، والمذكرات، وكلها من التصانيف المهمة، ولو حُسِبتْ أيام عمره على صفحات كتبه لزادت صفحات الكتب على أيام سنيّه وعمره كثيراً وكثيراً، وكل ذلك دليل على البركة في أوقاتهم، وعلى حرصهم على هذه الأوقات.
إذاً.. هذا نموذج من حياة سلفنا الصالح رضي الله عنهم وأعلى الله قدرهم، ورفع شأنهم، وخلّد ذكرهم؛ لأنهم كانوا يحرِصون على أوقاتهم، يستثمرونها في النافع من أمور الدين والدنيا.
^ دعاء:
نسأل الله - سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن يستثمر الأوقات، ويغتنمها فيما ينفع من أمور الدين والدنيا. إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اكتب تعليق لملتقى شباب الجامعات بميدوم